الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الصابوني: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)} [19]:خطبة المرأة واستحقاق المهر:.التحليل اللفظي: {عَرَّضْتُمْ} التعريض: الإيماء والتلويح من غير كشفٍ أو إظهار، وهو أن تفهم المخاطب بما تريد بضرب من الإشارة بدون تصريح، وهو مأخوذ من عرْض الشيء أي جانبه.قال في اللسان: وعرّض بالشيء: لم يبيّنه، والتعريض خلاف التصريح، والمعاريض: التورية بالشيء عن الشيء وفي الحديث: «إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب» والتعريضُ في خِطْبة المرأة: أن يتكلم بكلام يشبه خطبتها ولا يصرّح به كأن يقول: إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك إلى خير، كما يقول المحتاج للمعونة: جئت لأسلّم عليك، ولأنظر إلى وجهك الكريم، ولذلك قالوا:وحسبك بالتسليم مني تقاضينا... {خِطْبَةِ النساء} الخطبة بكسر الخاء طلب النكاح، وبالضم معناها: ما يوعظ به من الكلام كخطبة الجمعة، وفي الحديث: «لا يخِطبن أحدكم على خِطْبة أخيه».{أَكْنَنتُمْ} سترتم وأضمرتم، والإكنان: السرّ والخفاء.قال ابن قتيبة: أكننتُ الشيء: إذا سترته، وكنتُه: إذا صُنته، ومنه قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} [الصافات: 49].{لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} المراد بالسر هنا: النكاح ذكره الزجاج وأنشد:قال ابن قتيبة: استعير السرّ للنكاح، لأن النكاح يكون سرًا بين الزوجين.والمعنى: لا تواعدوهن بالزواج وهنّ في حالة العدة إلا تلميحًا.{عُقْدَةَ النكاح} العُقدة من العقد وهو الشدُ، وفي المثل: يا عاقدُ اذكر حلًا.قال الراغب: العُقدة: اسم لما يعقد من نكاح، أو يمين، أو غيرهما.وقال الزجاج معناه: لا تعزموا على عقدة النكاح، حذفت على استخافًا كما قالوا: ضرب زيد الظهر والبطن، معناه: على الظهر والبطن.{أَجَلَهُ} أي نهايته، والمراد بالكتاب: الفرض الذي فرضه الله على المعتدة من المكث في العدة.ومعنى قوله: {حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ} أي حتى تنقضي العدة.{فاحذروه} أي اتقوا عقابه ولا تخالفوا أمره، وفيه معنى التهديد والوعيد.{حَلِيمٌ} يمهل العقوبة فلا يعجّل بها، ومن سنته تعالى أنه يمهل ولا يهمل.{الموسع} الذي يكون في سعة لغناه، يقال أوسع الرجل: إذا كثر ماله.{المقتر} الذي يكون في ضيق لفقره، يقال: أقتر الرجل: إذا افتقر، وأقتر على عياله وقتّر إذا ضيّق عليهم في النفقة.{تَمَسُّوهُنَّ} المسّ: إمساك الشيء باليد، ومثلُه المِساسُ والمسيسُ.قال الراغب: المسُ كاللمس ويقال لما يكون إدراكه بحاسة اللمس، وكنيّ به عن الجماع فقيل: مسّها وماسّها قال تعالى: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47].{فَرِيضَةً} الفريضة في الأصل ما فرضه الله على العباد، والمراد بها هنا المهر لأنه مفروض بأمر الله.{يَعْفُونَ} معناه: يتركن ويصفحن والمراد أن تسقط المرأة حقها من المهر. .المعنى الإجمالي: بيّن تعالى حكم خطبة النساء المعتدات بعد وفاة أزواجهن فقال جل ثناؤه ما معناه: لا ضيق ولا حرج عليكم أيها الرجال، في إبداء الرغبة بالتزوج بالنساء المعتدات، بطريق التلميح لا التصريح، فإن الله تعالى يعلم ما أخفيتموه في أنفسكم من الميل نحوهن، والرغبة في الزواج بهن، ولا يؤاخذكم على ذلك، ولكن لا يصح أن تجهروا بهذه الرغبة وهنّ في حالة العدة، إلاّ بطريق التعريض وبالمعروف، بشرط ألاّ يكون هناك فحش أو إفحاش في الكلام، ولا تعزموا النية على عقد النكاح حتى تنتهي العدة، واعلموا أن الله مطلع على أسراركم وضمائركم ومحاسبكم عليه.ثم ذكر تعالى حكم المطلّقة قبل الفرض والمسيس، فرفع الإثم عن الطلاق قبل الدخول، لئلا يتوهم أحد أن الطلاق في هذه الحالة محظور، وأمر بدفع المتعة لهن تطيبًا لخاطرهن، على قدر حال الرجل في الغنى والفقر، وجعله نوعًا من الإحسان لجبر وحشة الطلاق، وأمّا إذا كان الطلاق قبل المساس وقد ذُكر المهر، فللمطلّقة نصف المسمّى المفروض، إلا إذا أسقطت حقها، أو دفع الزوج لها كامل المهر، أو أسقط ولي أمرها الحق إذا كانت صغيرة.ثم ختم تعالى الآية بالتذكير بعدم نسيان المودة، والإحسان، والجميل بين الزوجين، فإذا كان الطلاق قد تمّ لأسباب ضرورية قاهرة، فلا ينبغي أن يكون هذا قاطعًا لروابط المصاهرة ووشائج القربى..سبب النزول: قال الخازن في تفسيره: نزلت هذه الآية: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النساء} في رجل من الأنصار، تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسمّ لها صداقًا، ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} الآية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمتعها ولو بقلنسوتك»..وجوه القراءات: 1- قرأ الجمهور {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} وقرأ حمزة والكسائي {تُماسُوهنّ} بألف وضم التاء في الموضعين هنا وفي الأحزاب، وهو من باب المفاعلة كالمباشرة والمجامعة.2- قرأ الجمهور {عَلَى الموسع قَدَرُهُ} بالرفع، وقرأ ابن كثير ونافع {قدْرُه} بسكون الدال.3- قرأ الجمهور {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} وقرئ: {وأن يَعْفوا} بالياء..وجوه الإعراب: أولًا- قوله تعالى: {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} لكنْ حرفُ استدراك، والمستدرك محذوف تقديره علم الله أنكم ستذكرونهنّ فاذكروهن ولكن لا توعدوهن وسرًّا مفعول به لأنه بمعنى النكاح، أي لا تواعدوهنّ نكاحًا، ويصح أن يعرب على أنه حال تقديره مستخفين، والمفعول محذوف أي لا تواعدوهن النكاح سرًا.ثانيًا- قوله تعالى: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح} منصوب بنزع الخافض أي على عقدة النكاح.ثالثًا- قوله تعالى: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} ما: مصدرية والزمان معها محذوف تقديره: في من ترك مستهنّ، وقيل: ما شرطية أي إن لم تمسوهن.رابعًا- قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فالواجب نصف ما فرضتم أو فعليكم نصف ما فرضتم، وما اسم موصول بمعنى الذي مضاف إليه..لطائف التفسير: اللطيفة الأولى:أباح القرآن التعريض في خطبة المعتدة دون التصريح، ومن صور التعريض أن يقول: إنك لجميلة، أو صالحة، أو نافقة، أو يذكر الشخص مآثره أمامها.روى ابن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان عن خالته سُكينة بنت حنظلة قالت: دخل عليّ أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدتي، فقال: أنا من علمتِ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقّ جدي عليّ، وقدمي في الإسلام، فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، أتخطبني في عدتي، وأنتَ يؤخذ عنك؟ فقال: أو قد فعلتُ؟ إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة حين توفي عنها زوجها أبو سلمة فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لها منزلته من الله، وهو متحامل على يده حتى أثَّر الحصير في يده فما كانت تلك خِطبة.اللطيفة الثانية:قال الزمخشري: السرّ في الآية: {لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء لأنه ممّا يُسر، قال الأعشى:ثمّ عبر فيه عن النكاح الذي هو العقد، لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح.اللطيفة الثالثة:ذكر العزم في الآية: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح} للمبالغة في النهي عن مباشرة النكاح في العدة، لأن العزم على الفعل يتقدمه، فإذا نهي عنه كان النهي عن الفعل أولى.اللطيفة الرابعة:عبّر تعالى بالمساس عن الجماع، وهو من الكنايات اللطيفة التي استعملها القرآن الكريم.قال أبو مسلم: وإنما كنّى تعالى بقوله: {تَمَسُّوهُنَّ} عن المجامعة، تأديبًا للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به.اللطيفة الخامسة:الخطاب في قوله تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} وفي قوله: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} للرجال والنساء جميعًا ورد بطريق التغليب.قال الفخر: إذا اجتمع الرجال والنساء في الخطاب كانت الغلبة للذكور، لأن الذكورة أصل، والتأنيث فرع، ألا ترى أنك تقول: قائم ثم تريد التأنيث فتقول: قائمة.اللطيفة السادسة:الحكمة في إيجاد المتعة للمطلقة جبر إيحاش الطلاق، والتخفيف عن نفسها بالمواساة بالمال.قال ابن عباس: إن كان موسرًا متّعها بخادم، وإن كان معسرًا متعها بثلاثة أثواب.اللطيفة السابعة:روي أن الحسن بن علي متّع بعشرة آلاف فقالت المرأة: وسبب طلاقه إيّاها ما روي أنّ عائشة الخثعمية كانت عند الحسن بن علي بن أبي طالب، فلمّا أصيب عليّ وبويع الحسن بالخلافة قالت: لتَهْنكَ الخلافة يا أمير المؤمنين! فقال: يُقتل عليّ وتظهرين الشماتة؟ إذهبي فأنت طالق ثلاثًا، فتلفعت بجلبابها، وقعدت حتى انقضت عدتها، فبعث إليها بعشرة آلاف متعة، وبقية ما بقي لها من صداقها فقالت: فلما أخبره الرسول بكى وقال: لولا أني أبنتُ الطلاق لها لراجعتها.
|